إن الجغرافيا التي حددها التراث العربي السوري والمصري القديم , والتي شهدت عمليات نشوء الحياة الأولى النباتية ثم الحيوانية ثم خلق الإنسان هي ما صار يدعى بشبه جزيرة العرب وتحديداً: جغرافيا اليمن القديمة, التي كانت تمتد من منطقة بلاد غامد شمالاً في وسط شبه جزيرة العرب إلى ساحل بحر العرب جنوباً. وهي ما دعيت في التراث العربي القديم كله, ومن ضمنه التراث المصري القديم ب "أرض الإله" و "أرض الأرباب" و "السرة" و"المركز" و "الأرض المقدسة" و "الأرض المباركة" و" أرض العطور والمرّ واللبان والبخور"
ومن أسماء المواقع التي شهدت عمليات الخلق الأولى وتقدست عند قدامى السوريين والمصريين والنازحين من السوريين (الإغريق) جبل "شدا" الذي دعي أيضاً باسم "قرونو" أي الأقرن ذا القمتين .
يقع هذا الجبل في جنوب بلاد غامد من جبال السراة في شبه جزيرة العرب الذي ما زال محتفظاً باسمه الخالد حتى اليوم , وليس في الوطن العربي كله جبل آخر يحمل هذا الاسم غيره.
فما معنى كلمة "شدا" ؟
إن الكلمة في القاموس السرياني من الفعل "شدا" ويعني: نفى, طرد , أبعد + أسقط , أهبط, أوقع, + بدّل, غيّر , حوّل + أقام أحداً على منصب + اتكل, اعتمد+ رمى, رشق.
شدت وشدتا: سدّة , عرش + منصب, منزلة, مرتبة , مكانة + كرسي يقعد عليه الجرّار , أي صانع الجرار…. شد: غزل السدى + الشبه, المثيل…. أليس في معاني هذه الكلمة ما يغطي قصة خلق الإنسان من صلصال , من حمأ مسنون (وكأنما على عجلة الفاخراني) وغزل السدى والنسج المرتبطة بعملية الصف, والعرش والسيادة, والطرد والهبوط , وتغيير الرأي وتعيين البديل , والمكان المحمي المحروس؟ أولا يذكّرنا هذا بالآيات الكريمة في سورة الجنّ { وأنّا لمسنا السماء فوجدناها مُلئت حرساً شديداً وشهبا. وأنّا كنا نقعد مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً} (7-9) ( من معاني السماء الجبل وكل ما علاك فأظلّك)
فماهي حقيقة هذا الشهاب الذي إذا ما استرق أحد من الجن السمع لذبذبات عملية الوحي المرمّزة وجد له "شهاباً رصداً" ؟ وهل يعقل أن يكون المقصود بالشهاب أحد النيازك السماوية كما درج على ذلك المفسرون؟
لكن هذا الشهاب وصف في سورة الطارق بأنه "الشهاب الثاقب" والثاقب تعني المنير الساطع والخارق, أي الذي يثقب ويخترق ويستحيل أن يخترق الجسم الكبير كالنيزك الجسم الصغير , إنه لهذا أشبه ما صرنا نعرفه اليوم بشعاع الليزر.
كما أن هذا الجبل مازال يحمل كثيراً من المواصفات التي اقترنت بأرباب الخصب وبالمغاور وبالأرض الجنة وبالرياحين وبالمحل الآمن و (بالرماية لكل من يحاول سبر غوره)
وهو نفسه الذي دُعي في وثائق عرب وادي النيل القديمة "شد" الذي يحمل السماء " وهذا التعبير كانوا يعنون به الذي يحمل أرباب السماء وكانوا يتصورونه أميراً شاباً يقتل وهو في مركبته الأسود " (أدولف إيرمان,ص364) . وعن هذا الجبل كتب علي بن صالح السلوك الزهراني يقول : "جبل شدا جبل عظيم يزرع فيه الحنطة والشعير والبن والموز والخوخ والرمان والتفاح والبرتقال إلى جانب ما يغطيه من أشجار العرعر أو الصنوبر والزيتون البري والحناء وأنواع الرياحين . وبأعلى قمة هذا الجبل من جهته الشرقية وتسمى "قمة المصلى" حجر مثلث الشكل تحمله ثلاثة أحجار كبيرة كالأثافي, ويتسع لإمام ومأمومين اثنين فقط . يسمونه "مصلى ابراهيم" لا يستطيع الوقوف عليه أو الصلاة فوقه إلا من كان متعوداً . وأبلغوني بأن هذا المصلى الحجري كان يفد إليه يمنيون وأنهم كانوا لا يمرون بالقرى بل يتجهون إليه ويبقون عنده أياماً يتعبدون الله ويعودون إلى بلادهم. والطريق إلى القمة من الصعوبة بمكان , وهو أعلى مكان في تهامة وسراة غامد وزهران بعد مرتفعات دوس وبيضان"
لا شك أن في أوصاف هذا الجبل عدة أمور يجب التوقف عندها :
1- هذا الجبل مقدس عند العرب الأقدمين في سوريا ووادي النيل .
2- دُعي بهذا الاسم منذ ذلك الزمن الموغل في القدم وحتى اليوم .
3- اسمه يتضمن معاني السدة والعرش, كما يتضمن الحماية (القذف, الرماية, الرشق)
4- وهو الجبل الأقرن ذو القمتين.
5- وعليه جميع أنواع الفواكه المذكورة في الجنة.
6- حوى منها ما يتناقض مع ارتفاعه الشاهق كالبرتقال.
7- تنبت عليه الأشجار طيبة الرائحة وجميع أنواع الرياحين.
8- على قمته تشكيل من الأحجار المثلثة وهي ثلاثة تحمل حجراً رابعاً , وهذا التشكيل الهرمي للحجارة هو تجسيد " لحجر البن " الحجر الأول عند بدء الخليقة, عند ميلاد النور كما أنها تمثيل للوحدة العددية التي ترمز إلى الخلق , ثلاثة أحرف تؤلف كلمة.
9- أما تسمية الناس لها "بمصلى ابراهيم " فليس إلا تحريفاً عن العربية القديمة السريانية عن كلمة "بهرام" التي تعني "النور" . وجبل شدا جبل كبير وعظيم جداً مليء بالمغاور العميقة التي تسكنها الأسود والنمور المفترسة . وكما اقترنت عشتار بالأسد وكانت مروّضة للأسود وقل أن وُجد لها صورة إلا وهي راكبة على ظهر أسد واقفةً أو يحيط بها أسدان على جبل الصنوبر , فإن أدونيس اقترن بالنمر وكثيراً ما صوّر ممتطياً ظهر نمر , وقد دُعيت قمتا جبل شدا منذ القدم وإلى اليوم ب "التحيتين" . يقول علي بن صالح سلوك الزهراني : " التحيتين قمتان في جبل شدا تشرفان على وادي بُحُر وتكوّنان مع قمتي المصلّى والقارة ثلاثة رؤوس لجبل شدا الأعلى , وفي مغاور القمتين تعيش النمور المفترسة"
وكلمة تحيتين عربية قديمة هي في الأصل: "تَحْيدين" وتعني القمتين والواحدة منها "حيدا" الذي هو جبل عشتار, والكلمة تعني في القاموس السرياني: العروس , العذراء , المثيلة للرب, النظيرة, الاتحاد, الاقتران, الزواج, العرس, الزوج . وانتقلت الكلمة مع العرب السوريين إلى شتى الأنحاء وصارت تلفظ "إيدا" . وماتزال اللغة العربية إلى اليوم تحتفظ بهذا المعنى . ففي محيط المحيط نجد "الحيد" = المثل, النظير, ومن الجبل مكان شاخص كأنه جناح , وكل نتوء في قرن أو جبل.
ولقد حمل العرب السوريون معهم تراثهم المقدس , ونشروا أسماء المواطن العربية المقدسة في شتى مواقع انتشارهم . ففي بلاد اليونان فتش السوريون وكعادتهم عن الجبل الذي يمكن أن يتشابه في بعض صفاته مع الجبل المركز الأول , الذي شهد الخليقة والنور لأول مرة على الأرض, وسكنته الآلهة, وكان لابد من إقامة الاحتفالات الدينية عنده. فنجد في اليونان جبل (فرناس) أو "فُرنا" في العربية الفينيقية القديمة وتعني الفرن, التنور, الموقد وهو كناية عن البركان حيث أن هذا الجبل الذي يقع في منطقة "فوقايا" في اليونان هو جبل بركاني كان الدخان ومازال ينبعث من بعض جوانبه.
أما الاسم الآخر للجبل الذي حمله العرب السوريون معهم إلى كريت هو جبل "حيدا" أو "إيدا"
وجبل "إتنا" في صقلية (التن = الدخان) .
ويجدر بنا أن ننوه إلى مسألة الأرباب وتقديسهم عند العرب السوريين , فهؤلاء الأرباب هم الأجداد العرب السوريون القدماء الذين تفوقوا في مجال ما كان فيه خير للبشر أو امتازوا بشمائل أخلاقية وإنسانية معينة تصلح لأن تتخذ قدوة للناس جميعاً , فبنيت لهم قبور خاصة مميزة أو مقامات تم استنساخها على مدى رقعة انتشار العرب السوريين في الأرض , وهذا ما نجده منتشراً اليوم في شتى بقاع الوطن العربي التي تحوي عدداً لا يحصى لمقامات الأنبياء والقديسين والأولياء . فالأمر لا يعدو كونه تعظيماً لأولئك الآباء المتفوقين وإحياء ذكراهم إلى الأبد.
المصدر : 1- تاريخ سوريا الحضاري القديم -1- المركز للدكتور أحمد داوود