أبوزيد الذى عاش
ألف عام أو يزيد
2
قبل ان ينفجر الصاروخ الإيرانى فى فندقنا ، قفزوا برشاقة من الطابق الثانى ، بل وساعدوا فرق الإنقاذ على رفع الأنقاض سريعا ..حوصرت اسفل أحد الجدران ، لكنى نجوت بعد ان ألتقيت بالموت وجها لوجه ..أصروا على الإحتفال بنجاتى فى احد مشارب ( بارات ) بغداد ..كانوا ضمن المجموعة التى خرجت من بيروت عام ١٩٨٢ ..وقد أسماه القديس عزت وهو قائد المجموعة ..مصرى من بورسعيد ومعه علي من دمياط ، ومعاوية من سورية ، وجزائرى ومغربى وسودانى ومجموعة من الفلسطينيين .. أسماه النكبة الثانية بعد ١٩٤٨ .. فى الليل كان معاوية يصعد الى سطح الفندق ..يظل واقفا وممسكا بأحبال الغسيل لساعات طويلة ..وعندما اندهشت قالوا لى أتركه فهو فى بيروت ..كان القديس عزت شخصا رومانسيا هادئا وحالما ..لا تظهر عليه اى إمارات تدل على انه فدائى .. لكن رأيت نظرته لأحد افراد مجموعته عندما ارتكب خطأ بسيطا وكانت تحمل من الصرامة والجدية ما جعل زميله يقف ليؤدى له التحية ويعتذر بخجل بالغ ..كنت عندما اجالسهم افضل الإستماع إليهم ..وكم انبهرت بنقدهم الذاتى للتجربة التى أفقدتهم لبنان ..اما وصفهم ليوم الخروج من بيروت فيفوق قدرة اعظم مخرجى الارض على التصوير والتصور ..قال لى عزت وكنا منفردين : هذا الخروج مقدمة للمجهول .. اشعر بأشياء مريبة واتمنى ان اكون مخطئا ..لم أستوضحه لأنى كنت احافظ على صورتى لديه كمستمع جيدا ، ومثقف مهموم بفلسطينه ، ولأنى وجدته عندما يتحدث إلى رجاله ..مهاب ومقنع ..فكنت أصغى إليه كما يفعلون …
كانوا يأتون للفندق ليومين كل إسبوعين ..وقد منحنى القديس عزت نسخة اصلية من قصيدة مديح الظل العالى واستودعنى ذات يوم ..ولم أشأ أن أسأله عن وجهته ، ولا عن سر القلق والحيرة فى نظراته ..
كان الصباح لطيف الأنسام وأنا اتجول بساحة التحرير بوسط بغداد حين لمحت مكتبة مفتوحة …ومكتبات بغداد فسيحة جدا وغزيرة الكتب .. توجهت إلى ركن الشعر ..كنت أبحث عن الأعمال الكاملة لمعين بسيسو …انخفضت للبحث فى الارفف السفلى ولم ألحظ ان هناك سيدة تقف بجوارى ..سألتنى : هل تريد مساعدة ..قلت لها أبحث عن الأعمال الكاملة لمعين بسيسو .. سألتنى بدهشة : هل انت مصرى ؟ ..استغربت سؤالها وقلت لها بغضب ان مصر بها اكبر عدد للمثقفين فى الوطن العربى ..اعتذرت بلطف وقالت : قصدت ان اغلب المصريين هنا بالعراق لا يقرأون مثل هذه الكتب .. وعموما الديوان بمكتبتى بالبيت وسأحضره لك كهدية .. ثم دعتنى الى فنجان قهوة بمكتبها بالمكتبة وطلبت منها أعمال لويجى برانديللو ابو المسرح الإيطالى فوعدت بإحضارها لى ..طلبت منى عنوانى لترسلها لى ..وبعد يومين جاءنى شخص من طرفها يحمل لفة كبيرة جدا .. صعدت لغرفتى وكاد يغمى علي وانا افضها ..فمع الكتب أرسلت لى وثائق الحزب الشيوعى العراقى …أنتابتنى رجفة …هذا معناه الإعدام لو ضبطت معى ورقة واحدة .. وبالعراق السجن ايسر شئ والإعدام واقع يومى ..دخلت للحمام اقرأ من كل ورقة سطر او سطرين ثم احرقها تماما .. أكثر من ساعة وانا احرق تلك الأوراق …ولم اذهب إليها مرة اخرى ..ولم أمر أمام مكتبتها .. بل ولم اعرف لماذا فعلت ذلك معى ..بل وظللت لليالى اعانى كوابيس الحكم بإعدامى .. وتنفيذ الحكم …فأنهض من نومى هلعا .. ولم استرح إلا بعد ان احرقت كتب برانديللو وديوان معين بسيسو
=====
أبوزيد الذى عاش
ألف عام أو يزيد ..
3
المرة الوحيدة التى تعرضت فيها للصفع على وجهى كانت ببغداد سنة ١٩٨٥ ..دون مقدمات فوجئت بشاب يأتى مقبلا والبسمة تعلو وجهه .. تخيلت أنه يعرفنى فمددت له يدى لكنه صفعنى على وجهى صفعة لا أناساها ..ثم ركض بسرعة غريبة ..وبينما هممت بالركض خلفه أحتضننى رجلان وطيبا خاطرى وأعتذرا لى ..إنه أحد ضحايا الحرب .. فعلها منذ أيام فأمسكنا به وأوسعناه ضربا ..ثم اكتشفنا انه خطية ..مخبل ..فلا تزعل .. وكانت المرة الأولى التى أسمع فيها عراقى يسب الحرب ويلعن من أضرمها …قرأت عن كثير من الطغاة وصور طغيانهم …لكن ما عايشته بالعراق شئ مختلف ..صادم .. نملك من الوعى نحن المثقفون ما يجعلنا نميز بين غزو أجنبى وحاكم طاغية ..لكنى أجد مما رأيته وعايشته عذر لبسطاء العراق الذى خرجوا مرحبين بالغزو الامريكى لبلادهم .. فما سمعته عن سجن ابوغريب وهو اسوأ من الباستيل غير مسبوق فى تاريخ الإنسانية .. البعث العراقى كان قاسيا مع شعبه ، ودمويا ، ولا يعرف الرحمة ..اغلب الشعب العراقى لا يعرفون لماذا يحاربون إيران ؟ بل وممنوعون من البكاء على ابنائهم الذين يأتون فى توابيت من جنوب العراق .
فى الشوارع تجد صور صدام وهو ينظر إليك أينما حللت .. بل وان تستخدم جريدة قديمة بها صورته فى لف اى شئ ، او اى صورة للإستخدام ليس بها التوقير للمهيب الركن ..فمعناه الذهاب إلى سجن ابوغريب حيث الذباب الازرق لا يعرف مكانك …لم تكن إيران تستحق هذه الحرب _ المحرقة ..فمواقفها كانت اكثر رقيا من كثير من الأنظمة العربية ..قال لى فنان عراقى أستضافنى فى مرسمه بالكرادة : صدام غبى لأنه لا يعرف عقيدة الشهادة عند الشيعة ..فأئمة الشيعة كلهم شهداء ..ومنتهى امانى الشيعى ان يلحق بأئمته ..كان عليه ان يفهم سيكولوجية الشيعى .. هذا الفنان الجميل كان مجندا رغم انفه ..وقد قال لى وهو يهدينى شريط كاسيت لمظفر النواب ولم أكن قد سمعت عنه من قبل : فكر فيما اقول بعدما تعود لبلدك سالما ..