الأصدقاء الأعزاء لمن يروق له أن يقرأ مع الشكر.
لعلنا لم نفقد لذة السرد ونحن أطفال، ولعلنا تمتعنا بها من دون أن نعيها. كنا نصيخ السمع لجدّتنا، وهي تقص علينا تلك القصص المليئة بالخيال والوهم ونحن نعيش عوالمها ونتطلع إلى أن نجد الإجابات عن تساؤلاتنا البريئة الساذجة، فقد أحكمت جدتنا حبكة قصصها، أو نتخيل أنفسنا أحد أبطالها، نخترق الواقع بالخيال، لنتجاوز ضعفنا ونقصنا في عالم السرد العفوي الذي تخلقه تلك الجدّة بمهارة عالية، ونحن الأطفال نتحلق حولها، ففي قصصها من التشويق الكثير، فلا نريدها أن تتوقف عن الكلام أو تقطع أحداث قصتها، ربَّما كانت تكذب علينا بعفويتها الصادقة، ونحن يروق لنا كذبها “سردها”، إنها “تروي”، ونحن نصغي لما ترويه “لنا” أليست الروايات والقصص مليئة بالكذب اللذيذ، وإن كان الكذب صفة مذمومة لا تليق بالإنسان، إلا أنها مقبولة في السرد ومطلوبة.
تطير بنا جدتي على “بساط الريح” وتضيء “مصباح علاء الدين” فتأخذنا وتطوف بنا في فضاءات كثيرة، ويكون كل منا “سندباد”، وهي تبحر بنا إلى بحار سبع، وتصعد بنا إلى جبال سبع، وتدخلنا في غابات، تغذينا من فواكهها وثمارها، وتخلق أزمة وتحل أزمة بطلها، كأنها تجهزنا للدخول إلى عالم غابة الواقع القادم، وتطرق لنا المفاجآت، وفي نهاية كل قصة تجعل من كل فتاة وشاب والآخرين بعد أن تحملوا المشاق وصبروا كثيراً، يعيشون عيشة سعيدة، فكانت النهايات ترضينا كأطفال، وننام ونحن سعداء، نحلم بمستقبل واعد وردي.
وكان جدّنا بعد العمر الطويل الذي قضاه في العمل كبحّار يجوب البِحار، جالساً على سريره الخشبي، وقد تركت السنون آثارها في ملامح وجهه، لكنه مازال يتمتع بجسده الرياضي. يفرح لكركرتنا الناعمة، ولا يفارقه مذياعه المتنقل، وهو يستمع إلى نشرات الأخبار، يسردها عليه صوت مذيعة عذب، أو ينتشي مع أغنية بصوت “داخل حسن” الذي يثير فيه الشجن ويعيد له ذكرى الأهوار والبحار والمدن الغريبة، أو صوت ناظم الغزالي الذي يحيله إلى دجلة وبغداد ومقاهيها وملاهيها وشوارعها وأزقتها الجميلة. كان جدنا كريماً معنا لا يبخل علينا، كي نشتري ما لذ وطاب لنا. ويدندن مع الأغنية ولا يخرج عن لحنها حتى نهايتها.
وكلما يأتي شهر رمضان، تنشغل جدّتنا عنا مع أمنا في أعمال البيت وإعداد الطعام، فهي خاضعة صاغرة لتوجيهات وأوامر جدّتنا. ينام جدّنا في النهار ولا يحب أن يزعجه أحد منا، ربّما يحلم بذكريات سفراته الكثير، والشواطئ وحوريات البحر، فما بقي له من أمل غير الأحلام ونحن الصغار، وعندما يصحو يحادث نفسه بحديث مبهم لا ندركه، ربَّما يعتب على الزمن، وذاك حديث الشيوخ الكبار، وقبل الإفطار يكون قد فتح قرآنه، وأخذ يتهجد بصوته الرخيم، نحن “الثلاثة” نلعب بحذر وصمت في باحة البيت، وننتظر حتى يحضر ابونا من العمل، وبعد أن نسمع صوت المدفع ويرتفع الأذان نهب للأكل، جالسين متحلقين مع أفراد العائلة. كانت تلك الطقوس لها بعدها في ما جاء من حياتنا.
ثم نجلس وعيوننا مشدودة نحو “التلفزيون”، أتذكر جيداً، كانت “ماركته توشيبا” بقياس 14 بوصة “أسود وأبيض” من تلك الأجهزة التي تشتغل بالصمامات الكهربائية، فلم تصلنا “التلفزيونات” الملونة بعد، جلب أبي هذا “التلفزيون” من “دولة الكويت” في أحدى سفراته، مع ما جاء بها من حاجات، وقد فرحنا به فرحاً شديداً، فقد كانت بيوت البسطاء تخلو منه.
أتذكر يوم كنت في الصف الخامس في الدراسة الابتدائية، وكنت أجلس في نفس الرحلة مع زميلي “أياد حسن”، وفي يوم من كل أسبوع وبحضور معلمنا الأستاذ “صبيح ….” في درس المعلومات، وقد كان جسمه يميل للقصر، ويتمتع بسمنة مناسبة، يقص علينا الطالب “أحمد عبود” فهو كان اختصاص حكايات، يروي لنا أحدى حكايات جدته، فكنا نتشوق كل أسبوع فنصغي له ونسمعه.
وكنا في ذلك الوقت نعرف السينما، وبين حين وحين نرتادها، نستمتع بالأفلام الهندية ونتفاعل مع أحداثها، بما ما فيها من حركة وغناء وفرح وبكاء، كنا نبكي لبكائهم، ونفرح لفرحهم، كانت ذكريات أيام الطفولة والصبى جميلة بسيطة، شكلت لنا شعريتنا الأولى قبل أن تتغير الأحوال، وتعمل يد الزمن وهي تحمل فأسها لتحطم كل شيء.
كانت الحياة جميلة، تمر بعفويتها، ولم نحسب حساب الزمن، ذلك الشي المطلق اللعين الذي لا يؤتمن. ما كانت مداركنا قد اكتملت، ولا تشكل وعينا، فلم نعرف إن للوجود أزمة كبرى، ولا الحياة كما نرى، بل حقيقتها قاسية مرة.
ياسين شامل \ كاتب وناقد عراقي